يمتاز شهر أكتوبر من سنة 1937 بأحداث كان لها اثر كبير في مسيرة الحركة الوطنية الاستقلالية المغربية، فبعد احتجاج مدينة مكناس في شهر شتنبر على تحويل مياه نهر بوفكران، واعتقال القادة في البيضاء والاحتجاج على ما كانت تعتزمه الكنائس الكاثوليكية بمدينة الخميسات من عقد تجمع لأساقفة هذه الكنيسة ورد الفعل بتنظيم التجمع السنوي لحفاظ القرآن بنواحي الخميسات ومظاهرات بني يازغة ومظاهرة مدينة مراكش احتجاجا على سياسة الفقر والتجويع وعقد المؤتمر الاستثنائي للحزب بمدينة الرباط ومظاهرة مدينة الخميسات يوم 22 أكتوبر ليتمم اعتقال الزعيم علال الفاسي ومحمد اليزيدي وأحمد مكوار والحاج عمر بن عبد الجليل يوم 25 فبراير لتعلن الثورة في كافة المدن المغربية احتجاجا وتضامنا.
وفي حديث الجمعة اليوم آثرنا الحديث عن حوادث الخميسات لما لها من اثر حينذاك وانعكاسات فيما بعد، لأنها شخصت ما عبرت عنه جميع القبائل الامازيغية من رفض لسياسة الاستعمار المبنية على فرق تسد ومحاربة الإسلام والقرآن واللغة العربية.
مواقف لها تاريخ
عرفت الحركة الوطنية المغربية بعد الحماية الفرنسية للمغرب أحداثا ومواقف بطولية، يقف أمامها الإنسان وقفة إجلال وتقدير واحترام، لأولئك الوطنيين الذين صنعوها أو ساهموا في صنعها، ولكن مع كل التضحيات التي قدمها أولئك فإن الناس اليوم لا يكادون يذكرون منها شيئا، بل ان كتب التاريخ الذي يتداولها أبناؤنا اليوم في مستويات مختلفة من التعليم لا تكاد تجد فيها صدى لتلك الأحداث، ولا لأولئك الرجال الذين كانوا وراءها، أو كانوا قادتها وحتى وقودا لنارها، وضحايا في مستويات مختلفة لمجرياتها، انه من السهل القول إنه لا يمكن استقصاء الأحداث كلها لأنها كثيرة ومتنوعة، غير أنه من الصعب أن يبرر هذا القول الإهمال الذي تعاني منه أحداث كبرى كان لها تأثير واضح على مسار مجريات الأمور وتطورها.
ورد عليَّ هذا الخاطر وأنا أتحدث مع الإخوة في وفد (حركة مجتمع السلم) الجزائرية مشيرا إلى المواقف والأحداث التي التقت فيها إرادة العاملين الوطنيين في الانعتاق والتحرر في أقطار المغرب العربي في مواجهة ما كان يبيته المستعمر للأقطار الثلاثة، ولاحظت وأنا أحدث نفسي أن بعض الأقطار لها اهتمام بالأحداث البارزة دون أن يكون نفس الاهتمام لدى البعض الأخر.
الناشئة والوعي الوطني
وعلى أي حال فإن المغرب يعاني أبناؤه نقصا في المعلومات التاريخية التي صنعت المغرب الحديث أو المعاصر، وذلك له الأثر البارز على الناشئة التي لم يعد لها نفس الاهتمام الذي كان للأجيال الأولى وأخشى ان أقول ان الوعي الوطني لدى البعض تراجع عما كان عليه وذلك لأن التربية الوطنية والتاريخية للناشئة ليست في المستوى المطلوب، ولاشك ان دراسة الأحداث الوطنية والبطولات التي كان يمتاز بها ولا يزال المواطن المغربي من شأنه ان يعيد الشعور الوطني إلى تأججه وتوقده اللذين امتاز بهما لدى المواطن المغربي أثناء مقاومة الاستعمار.
الثوابت والوعي الوطني
وليست هذه الميزة الوحيدة التي يقدمها الإلمام بتاريخنا وصانعيه وأبطاله، ولكنه كذلك يعيد الأولويات إلى الصدارة التي كانت لها، لقد كانت الأولويات والثوابت لدى الإنسان المغربي المناضل والعادي في أثناء النضال ذات حساسية خاصة، وهذه الحساسية هي التي لا نجدها اليوم وإذا وجدناها فلا نكاد نجدها على المستوى المطلوب، إذ لو كانت هذه الثوابت تملك على المواطن ما كانت تملكه من وعيه في الماضي لما وجدنا مسؤولين في مستويات مختلفة يخاطبون مواطنيهم بلغة غير لغتهم ولما وجدنا ما نجده من انتهاك علني لمقدسات دينية ووطنية بأسلوب لا يكاد يجرؤ الأجنبي أن يقوم به وهو يحتل البلاد.
ضرورة إحياء الذاكرة الوطنية
ومن المؤكد ان المخرج من هذا الواقع الذي يكون له تأثير سلبي على الوطن والمواطنين إذا استمر هو إحياء الذاكرة الوطنية وتحريك المشاعر بما تلقيه أحداث هذه الذاكرة من معاني الكرامة العزة والقدرة على المواجهة والجهر بالحق ومقاومة الانحراف الذي يبدأ بسيطا ثم يكبر شيئا فشيئا.
التاريخ مصدر للمعرفة
والذي هو مؤكد ومعروف كذلك لدى الباحثين والمهتمين ان القرآن الكريم جعل التاريخ وأحداثه مصدرا من مصادر المعرفة فأرشد إلى السير في الأرض والنظر في تاريخ الأولين وقراءة أحداثهم وأحداث عصورهم لأخذ العبرة ومعرفة الواقع والأسباب والنتائج وكان الأمر صريحا وواضحا للتذكير بكل هذا عندما قال جل من قائل »وذكرهم بأيام الله« وأيام الله المسجلة في تاريخ مغربنا المعاصر أيام مشرقة وأيام انتكاسة، إلا أنها كلها من أجل العبرة والذكرى »والذكرى تنفع المؤمنين«.
التاريخ والمستقبل
ولعل من المقولات التي تردد والتي هي من قبيل الحق الذي يراد به الباطل مقولة نزيد المستقبل ولا نزيد التاريخ، وكأن الحديث عن التاريخ نفي للمستقبل والمعروف أن التاريخ هو عماد المستقبل ومن لا تاريخ له لا مستقبل له، وإلا لما وجدنا الناس اليوم تتسابق لحفر ونبش الأرض وارتياد الكهوف والصحاري بحثا عن نقش في صخرة أو عظم في كهف أو آنية فخار أو أداة لتقول هذه الأمة أو ذاك الشعب انظروا كم أنا موجود في التاريخ وانظروا إلى اثارة من علم أو صناعة أو طقس أو حركة كان الاباء والأجداد يمارسونها أو يتحدثون بها، ومع هذا وذاك فالأحداث التي أشير إليها في هذا اليوم بالذات هي أحداث قريبة ونعيش أحداثا شبيهة بها اليوم.
المغرب قلعة الجهاد
لقد قدر لهذا الوطن أن يكون قلعة من قلاع الجهاد الإسلامي منذ ثلاثة عشر قرنا أو تزيد، وهو ما أثار عليه حفيطة الخصوم، خصوم العقيدة وخصوم الوطن لمكانته وموقعه ورغبة في الاستحواذ و السيطرة والتحكم لدى الكثير من الغزاة قديما وحديثا، ويشاء الله أن يكون المغرب المسلم شوكة في عنق أعداء الإسلام وهكذا حاول الاستعمار بأشكاله المختلفة وأزيائه المتعددة، أن يجد له موطئ قدم فيه ولكنه لا يكاد يجد هذا القدم حتى تهتز الأرض تحت أقدامه وينقلب خاسئا منهزما.
الاستعمار والشيطان
ولكن المستعمر كالشيطان لا ييأس ولا يمل فهو يوسوس دائما ويحاول باستمرار وهو مثله مثل الشيطان سواء بسواء يقنع بما تستصغره من العمل والتجاوب معه لأنه يعتبره بداية الطريق.
ان حديث الجمعة اليوم سيذكرنا جميعا بحدث مهم في تاريخ المغرب وهو يقاوم الاستعمار وذلك لأن هذا الحدث اجتمعت فيه مقاصد وأهداف الاستعمار وأهداف ومقاصد الوطنية المغربية في مقاومة الاستعمار.
فإذا كان الاستعمار يستهدف العقيدة الدينية لهذا الشعب بفرض مظاهر النصرانية من كنائس ومهرجانات وعادات وطقوس وفرض أعراف وقوانين تخرج بالناس عن الشريعة، ويستهدف اللغة العربية لإبعاد الناس عن القرآن بل ويمنع إقامة مواسم القرآن، ويسرق الأرض والخيرات، ويسعى لفرض الجهل واستمرار التخلف، فإن الحركة الوطنية جعلت هدفها الدفاع عن العقيدة وعن اللغة وعن الأرض وخيرات البلاد لتبقى لأهلها ويمكن القول إجمالا لذلك تحرير الإنسان وتحرير الأرض.
إن هذا كله يجتمع ويلتقي ليس بالصدفة ولكن بتدبير من الطرفين من طرف الاستعمار المعتدي ومن طرف الوطنية المقاومة للاستعمار ولرد الأمور إلى نصابها.
إن أحداث 22 أكتوبر 1937 في مدينة الخميسات التي أردت أن اخصص لها هذا الحديث كان لها ما بعدها، وقبل أن اترك الكلام لأحد صانعيها ليتحدث عنها وعن أبعادها كما عاشها لابد أن أشير إلى أمرين اثنين:
الأمر الأول:
هو ان هذه المذكرات التي سجل فيها صاحبها ما حصل وكيف حصل مذكرات تسجل واقع، إذ ليس صاحبها مجرد شاهد عيان فقط، ولكنه أحد فاعلي وصانعي للأحداث وأدلى بشهادته للتاريخ ويا ليت كل الفاعلين تمكنوا من تدوين الأحداث الأساسية التي عاشوها أو ساهموا فيها من قريب أو بعيد.
الأمر الثاني:
ان الكتاب نشر منذ سبعة أعوام بتقديم من المرحوم العلامة محمد المنوني ومدخل لابن صاحب المذكرات الدكتور (فوزي أحمد بويبة) عن قبائل زمور والحركة الوطنية في حوالي 700 صفحة من القطع الكبير، وبالنسبة للدور الذي لعبه في أحداث أكتوبر 1937 فهو ما نورده فيما يلي، وقبل ذلك لابد من القول ان الملاحظة التي دونها ابن المؤلف حول الحركات الاستقلالية حول دور والده في استقدام الطلبة للدراسة بالقرويين لا تتعارض مع إشارة علال الفاسي إلى دوره لأنه القائد الذي كان يتلقى منه المرحوم احمد بويبة التعليمات والتوجيهات كما هو واضح من شهادته على أحداث أكتوبر 1937 مع الإشارة إلى أنني لم اعثر في النسخة التي بين يدي من الحركات الاستقلالية على الجملة المشار إليها.
وإنني اخترت كعادتي ان أترك المعني بالأمر يتحدث مع الإشارة إلى أن الإبراز والتشديد والعناوين والربط من كاتب هذه السطور.
مهد الكاتب لهذه الأحداث بمقدمة حلل فيها ما وصلت إليه الحركة الوطنية من الذيوع والانتشار والتنظيم في مختلف القبائل وبصفة خاصة القبائل الأمازيغية التي كان الاستعمار يريدها ان تبقى بعيدة عما يجري وأنى لها ذلك؟ أليست هي قبائل الامازيغ حماة الدين والعقيدة؟ فقال:
الكاتب يتحدث من مقدمة الأحداث
لم يستسغ الاستعماريون ما صار إليه أمر الحركة الوطنية من الانتشار وما أخذ يسري من موجة الوعي في القبائل البربرية التي منها زمور التي تعد رائدا للقبائل الأخرى. فأخذوا يستفزون الوطنيين في كل الجهات، بحيث وقعت حوادث مؤسفة ببني يازغة وبن علاهم وآيت عرفة وأيت عياش ومريرت التي تم فيها اعتقال عدد من الوطنيين البرابر لإظهار قوة الحماية، وأن الحركة الوطنية بالمدن التي ظنوا أنها ستحميهم لن تنفعهم في قليل أو كثير، وأن السلطة هي بيد المراقب المدني وضابط الشؤون الأهلية. ثم رافقت ذلك موجة عارمة من الاستفزازات كانت الأولى في مراكش على اثر زيارة إحدى الشخصيات الفرنسية، وهي المسيو رامادي وكيل وزارة الأشغال العمومية، رفقة المقيم العام الجنرال نوكيس بتاريخ 24-09-1937، حيث تظاهر البؤساء والمحرومون الذين ضربتهم مجاعة الجنوب، إذ سادها الجفاف تلك السنة. فاعترض هؤلاء سبيل الموكب الرسمي، وعند ذاك ثارت ثارة السلطات المحلية، فألقت القبض على مجموعة من الوطنيين، بمن فيهم بعض العلماء، واستعملتهم في الأعمال الشاقة. ثم تلتها حوادث ماء أبي فكران بمكناس، يوم 2-09-1937، حيث وقعت مظاهرة دامية ذهب ضحيتها عدة شهداء أطلق عليهم جند الاستعمار بنادقه؛ كما ألقى القبض على قادة الحركة الوطنية بهذه المدينة. ثم تلتها حوادث متفرقة، منها إلقاء القبض بمريرت على الوطني الغيور العالم الشريف مولاي الطيب العلوي الذي كان يقود الحركة الوطنية بجبال الأطلس المتوسط، والذي كان يكتب في « الأطلس» بإمضاء » بوحياتي « والقائل في بعض قصائده.
وتثبتوا في الخطو خيفة مزلق
إن التسرع في الخطى أخطاء
عوامل أحداث الخميسات
وتحدث عن عوامل الأحداث فقال:
لقد كانت لحوادث الخميسات الدامية عدة عوامل أذكر منها:
ـ الاحتجاج الموجه إلى المراجع العليا بفرنسا والمغرب ضد محاولة عقد مؤتمر الكاثوليكيين بكنيسة (القديسة طيريزا) بالخميسات يوم الأحد 17 من شهر أكتوبر من سنة 1937.
ـ إلقاء القبض على ابن عمنا الشهيد السيد عبد السلام بن سي محمد بوبية، والذي كان قادما للقيام بقيادة مظاهرة لو تم عقد التجمع الكاثوليكي.
ـ منع حفاظ القرآن الكريم بقبيلة أيت أوريبل من إقامة موسم القرآن الكريم الذي كان يقام كل سنة بالمكان المعروف بمقام الطلبة قرب الخميسات، وذلك تحديا من السلطات الاستعمارية للاحتجاج على عقد المؤتمر الكاثوليكي.
ـ قرار الحزب الوطني بإجراء مظاهرات احتجاج ضد سياسة التضييق التي أخذت السلطات الاستعمارية تمارسها ضد الحركة الوطنية وعدم تلبيتها لما وعدت به من تنفيذ المطالب المستعجلة.
الامازيغ وطنيون أقحاح
وتحدث عن التطور الذي حصل في المغرب في عشر سنوات فقال:
فهذه العوامل كلها دفعت بنا إلى القيام بعمل من شأنه أن يلفت أنظار الرأي العام في الداخل والخارج، وخصوصا في فرنسا، إلى أن مغرب 1937 ليس هو مغرب 1927 وأن البرابر الذين كانت فرنسا تعدهم جنودا مرتزقة في صفوف جيشها ليسوا كذلك، وإنما هم وطنيون أقحاح لا يستجدون الشجاعة من أحد ولا يلتمسون الوطنية من غيرهم، بل هم أولى بأن يقوموا بالدفاع عن حريتهم وشعائر دينهم ووحدة بلادهم.
دراسة القرار بالمركز وبمنزل علال الفاسي
وعن اتخاذ القرار يقول:
»وعلى هذا الأساس اتخذ القرار التاريخي الذي تمت دراسته بمركز الحزب بالنواعريين، ثم بدار الأستاذ الزعيم علال الفاسي بدرب الميتر. وقد تقرر أن أقوم أنا بقيادة المظاهرة وبمعيتي كل من الإخوان السيد محمد بن عمر الهردوز والسيد ابن حمدون بن حمو الكرتيلي والسيد عبد القادر بن سليمان. وتكلف بالاتصال مع إخواننا الوطنيين في جميع الجهات السيد حمادي بن عمر البهيوي وجماعته، على أن يقوم بمظاهرة أخرى ـإن تم إلقاء القبض عليناـ السيد محمد بن عبد السلام الزرهوني الذي بقي بفاس يرعى الطلبة. كما قدم قبلنا كل من الطالبين السيد رحو الميموني لاستنفار الوطنيين من قبيلته، والسيد أحمد بلقاسم للاتصال بحفظة القرآن من أيت أوريبل، وأن يكون موعدنا هو يوم الجمعة 16 شعبان الموافق ليوم 22 أكتوبر 1937.
التزام علال والتحضير للتظاهرة
»وكان قد صرح لنا الأستاذ علال الفاسي عندما ودعناه بمنزله يوم الخميس 21 أكتوبر 1937 بأن » مظاهرة الخميسات لو تمت ووقع إلقاء القبض عليكم، فلن نتخلى عنكم وستقام مظاهرات في جميع المدن المغربية لمؤازرتكم والاحتجاج على اعتقالكم«.
وقد قمنا بإحضار لافتة من الثوب الأحمر، كتبنا عليها بمداد أسود العبارات التالية: »يحيي الملك! تحيى الحرية! تحيى الشريعة الإسلامية! يسقط العرف! تسقط القديسة طيريزا! يسقط الاستعمار!«.
وكان مقدم حفظة القرآن الكريم بايت أوريبل قد وجه رسالة احتجاج إلى كل من الإقامة العامة والصدر الأعظم المقري حول منع السلطات الفرنسية لحفاظ القرآن الكريم من إقامة الاحتفال السنوي لحفظة القرآن الكريم. فقد كان هذا الموسم عبارة عن احتفال بالتلاميذ الذين استظهروا القرآن الكريم واحتفاء بهم وتقديم لهم لقدماء الحفاظ حتى يتخرجوا عليهم وينضووا تحت لوائهم. وكانت القبيلة كلها تتجمع حول حفاظ القرآن الكريم وتمنحهم مساعدات مالية من نقود وزرع وحيوانات للذبح؛ كما تؤازرهم معنويا.
كل تلك العوامل تجمعت لتبرز منها حوادث الخميسات الدامية. ركبنا الحافلة مساء يوم الخميس من فاس قاصدين الخميسات نحن الثلاثة. وقد وصلنا الخميسات في العاشرة ليلا، وكانت الأمطار تنهمر، الأمر الذي ساعدنا على الوصول إلى دار الأخ السيد حمادي بن عمر خفية، إذ اختفى الحراس لشدة المطر. وهكذا تسللنا واحدا حتى دخلنا الدار، فوجدنا السيد حمادي بن عمر في انتظارنا. ثم التحق بنا ابن عمنا السيد إدريس بوبية الذي أعطانا عرضا عن الحالة بالخميسات، وأخبرنا عن حالة الأخ السيد عبد السلام بوبية، وبتنا ليلتنا لا حديث لنا إلا عن الخطوة التي ستخطوها الحركة الوطنية بالخميسات غدا«.
ثم تحدث عن إجراءات تنظيمية سيتم اتخاذها داخل المسجد وعن ساعة الصفر يقول:
الساعة الفاصلة والانطلاقة من المسجد
«وما كاد الإمام ينطق بـ: »السلام عليكم ورحمة الله« من صلاة الجمعة حتى بادر الأخ ابن حمدون باجتذاب المحراب وإخراجه. عند ذلك صعدت على المنبر وألقيت خطبة دينية وطنية حماسية في الموضوع تعرضت فيها إلى ما قام به الاستعمار المتمثل في النصرانية التي جاءت تغزو الإسلام في ديارنا وتفصلنا عن ديننا الحنيف وعن شريعتنا الإسلامية الغراء، وتحرمنا حتى من أبسط الحقوق وهو إقامة الموسم الديني والاحتفال بالقرآن الكريم، محاولة أن تحل محله إقامة موسوم كاثوليكي نصراني. وقد افتتحت خطبتي بالحديث الشريف: »الدين النصيحة ـ قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولدينه ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم«. ثم تعرضت للآيات التي تحث المسلمين على مقاتلة الكفار والمشركين.
وقد ذكر المؤلف مجموعة من الآيات القرآنية التي استشهد بها، ليتحدث عن تدخل أحد أعوان الاستعمار في المسجد فقال:
وقد وقف القائد علال بن بنعاشر، قاد البلدة، يطلب مني السكوت والنزول من المنبر ومرافقته إلى المحكمة. غير أن السيد حمادي بن عمر طلب منه إن أراد الخير لنفسه والنجاة بها أن يذهب إلى حال سبيله قائلا له: إننا عندما تتمُّ الخطبة، فسنتوجه للمراقبة للاحتجاج على اعتقال أخينا السيد عبد السلام بوبية وعلى اعتقال الوطنيين في سائر أنحاء البلاد، وعلى إقامة موسمهم، مطالبين بالحريات العامة وتطبيق الشريعة الإسلامية وتنفيذ المطالب المستعجلة للشعب المغربي. فما كان منه إلا أن انسحب إلى محكمته التي كانت تقع قرب المسجد. وعند انتهائي من الخطبة، خرجت الجماهير متحمسة غاضبة مزمجرة مارين أمام المحكمة والقائد لا يستطيع حراكا، وإنما قام واتجه بسيارته إلى المراقبة المدنية. ومررنا بالطريق الرابطة بين مكناس والرباط، متجهين شرقا. ولما وصلنا إزاء البريد، وقف أيضا الأخ السيد محمد بن عمر، فألقى كلمة في موضوع المظاهرة والغاية منها. ثم واصلنا السير حتى بلغنا مقهى الإغريقي المدعو »ديمتري«، حيث ألقى الأخ السيد ابن حمدون الكرتيلي خطبة ثالثة في الموضوع...
تحيا الشريعة يسقط الاستعمار
«وهكذا واصلنا السير بتؤدة والسيد أحمد بلقاسم يحمل الراية التي كتبت عليها العبارات التي تقدم ذكرها، ونحن نهتف بحياة المغرب وحياة الملك وحياة الحريات العامة وحياة الشريعة الإسلامية وحياة الحزب الوطني، ونسقط الاستعمار وكنيسة طيريزا والأعراف الجاهلية البربرية، حتى وصلنا إلى ساحة إدارة المراقبة المدنية ووقفنا الإبلاغ احتجاجاتنا. فبينما نحن كذلك إذا رجال الدرك يصلون ويتقدم أحدهم ـوهو جزائري يدعى عبد الله ـ إلى الأخ السيد أحمد بلقاسم محاولا انتزاع الراية منه، ثم ضربه على رأسه. فما كان من الأخ أحمد بلقاس ـرحمه الله ـ إلا أن خرج مدية كانت تحته فطعن بها الدركي في ذراعه الأيمن الذي حاول به انتزاع الراية منه، ثم تقدم أحد أعوان القائد وكان شخصا طويل القامة عريض المنكبين قوي العضلات. فترامى علي أنا والأخ محمد بن عمر، وجدبنا إلى داخل المراقبة، ثم تبعنا الأخ السيد حمادي بن عمر طالبا إطلاق سبيلنا ليسحب المتظاهرون إلى حال سبيلهم قائلا بأن مظاهرتنا هي مظاهرة سليمة وبأننا لا نقصد بها إلا الاحتجاج وإظهار سخطنا على السياسة المتعة وخنق الحريات العامة. ثم أعطت الأوامر أيضا بإبقائه معنا.
المعركة الفاصلة
حينذاك ثارت ثارة الجماهير مطالبة بإطلاق سراحنا أو إلقاء القبض على الجميع. فبينما هم كذلك، إذا رجال المخزن يهاجمونهم بالسيوف. وإذ ذاك نشبت المعركة بين المتظاهرين وأعوان الاستعمار من مخازنية وغيرهم. فرد المتظاهرين على المخازنية برشقهم بالحجارة والهجوم عليهم بالهراوات. فما كان من الخازنية إلا أن رجعوا إلى مقر المراقبة وتسلحوا بالبنادق علاوة على السيوف، ونحن الثلاثة كنا نرى ذلك ونحذرهم من مغبته. فلم ينصتوا إلينا، وإنما كانوا ينصتون إلى المراقب المدني المسيو مارصال والترجمان الجزائري المسيو رنان والقائد علال والقائد محمد بن طبش الذي التحق فيما بعد هو والمناصرون له. وكان قد اشتد غضبه وانتفخت أوداجه لما رأى أفراد قبيلته وهم يقومون برشق المخازنية بالحجارة ويهاجمونهم. فتسلح ببندقيته وسيفه وخرج مع المخازنيه لضرب المتظاهرين، وكان أول من أطلق الرصاص على الجماهير. وحينذاك احتدمت المعركة وبدأ الجرحى يسقطون من الجانبين، وكذلك بعض الشهداء والقتلى. وكنا ـ نحن الثلاثة ـ نستمع أزيز الرصاص. وإذ ذاك تقدم إلى القائد علال قائلا: ترى ما فعلت وما أقدمت عليه من إزهاق الأرواح؟ فأجبته بأن «مظاهرتنا كانت سلمية... وإنما أنتم الذين بدأتم بالضرب وإطلاق الرصاص». فما كان منه إلا أن رفع يده إلى أعلى رأسه ولطمني على خدي لطمة كادت أن تؤدي بحياتي قائلاً: «اسكت ولا ترد الكلام».
المواطنون يعلنون التعبئة
وما سمع الناس في القبائل بحوادث الخميسات حتى هرعوا متسارعين راجلين وراكبين، نساء ورجلاً، كل منهم يريد الفوز بالجهاد. ولولا قدوم الطائرات التي كانت تغير عليهم فتردهم وتحول بينهم وبين الوصول إلى الخميسات، والأمر الذي جعل حداً للحوادث الدرامية ـ فلولا استعمال الطائرات في رد الحشود الجارفة، لما بقي فرنسي واحد ذلك اليوم حياً بالخميسات وكذلك أعوانهم من الخونة والمتعاونين وحتى المتخاذلين.
ومع غروب الشمس كانت الاشتباكات قد توقفت، وأخذت الشرطة والجند يتتبعون الوطنيين لاعتقالهم وإلقاء القبض عليهم سواء في الشوارع والطرقات أو في منازلهم وخيامهم أو في البساتين، يدلهم على ذلك أعوان القائدين علال وبن طبش والمخازنية.
تلك شهادة أحد أبطال هذه المعركة الفاصلة التي كان لها ما بعدها والتي اعتقل فيها من اعتقل ونفي من نفي وكان نفي الزعيم علال إلى الكابون يوم 3 نونبر 1937 ليبقى هناك تسع سنوات.
الصورة : شارع محمد الخامس في التلاثينات ( قبالة الشرطة )