لقبهم الصينيون بـ«مهندسي الصحة والنظافة»، نظرا إلى الأدوار الكبيرة التي يقومون بها من أجل حماية البيئة، انطلاقا من كون أنه ليس بمقدور أي كان الاشتغال في مجال النظافة في اليابان، بل يتم ذلك عن طريق إجراء اختبار للمترشحين، الذين يتقاضون راتبا شهريا عاليا، ويتمتعون بكامل الحقوق، في الوقت الذي يطلق عليهم في المغرب لقب «مالين الزبل» بكل ما تحمله العبارة من دلالات قدحية، على اعتبار أن كل من يشتغل في «جمع النفايات» يظل بدون كرامة، ويتعرض لشتى أنواع «الحكرة»، بل أكثر من ذلك فـ«مالين الزبل» في المغرب، غالبا ما ينتمون إلى الفئات المهمشة والفقيرة، ومنهم من له سوابق عدلية. «المساء» تسلط الضوء على هذه الشريحة من المجتمع، وتقربكم، من خلال هذا الربورتاج، من مهنة عامل النظافة في المغرب.
حسناء، إسم على مسمى، شابة حسناء لا يتجاوز عمرها الثلاثين سنة، دفعتها ظروفها الأسرية إلى الخروج بحثا عن العمل من أجل إعالة طفليها، بعد طلاقها من زوجها وبحكم انتمائها إلى عائلة فقيرة تعيش ظروفا مادية قاسية فرضت عليها إيجاد عمل، كيفما كان، بعدما تخلى عنها أبوها وتركها في حضن الأم.
تحت أشعة الشمس الحارقة، تباشر حسناء عملها اليومي وهي راضية، نسبيا، عن عملها، لا لشيء سوى لأنها لم تجد بديلا عن ذلك، ولا تريد أن تشرد طفليها وتحرمهما من الدراسة.
أول ما يلفت انتباهك وأنت تقترب من حسناء، وهي منشغلة في جمع الأزبال في شوارع عمالة الصخيرات، دون أن تبالي بمن حولها، وجهها الذي يبدو وكأن الشمس الحارقة قد لفحت بشرته الصافية، وحجبت عنه جماله الأخاذ، لكن كلما ازددت قربا منها، تبدت لك نظارة البشرة، التي تخفيها حسناء تحت أقنعتها الطبيعية، حفاظا على نظارتها ولونها الناصع البياض، من أشعة الشمس الحارقة.
لم تتردد حسناء في الحديث بطلاقة تنم عن مستوى عال، رغم أن قدميها لم تطآ يوما فصول الدراسة، تقول حسناء وهي كلها أمل وطموح: «أنا لم أختر العمل خارج البيت إلا وأنا مكرهة، حتى لا يعيش أبنائي في نفس السيناريو الدرامي الذي عشته».
وأضافت حسناء، وهي واثقة من نفسها، أنها فضلت أن تشتغل في جمع القمامات بدل الخروج إلى الشارع والبحث عن لقمة العيش بطرق أخرى، قبل أن تستطرد قائلة: إن الكثير من الفتيات يلمنها على العمل في «جمع الأزبال»، خاصة أنها جميلة وفاتنة، في إشارة واضحة إلى مجال الدعارة، الذي أضحى ملاذ الكثيرات، إلا أن شرفها وحبها لأبنائها جعلها تفتخر بعملها، لأنه بالنسبة إليها عمل شريف.
وتواصل حسناء كلامها، بحسرة، قائلة إنه للأسف الشديد أن المجتمع المغربي لا يقدر هذا العمل، ويحتقر كل من يشتغل في هذا المجال، ويحز في نفسها النظرة الدونية، التي ينظر بها المجتمع إلى عمال النظافة، المرآة الحقيقية للمدينة، وينعتهم بنعوت دون تقدير المجهود والخدمة الشريفة التي يؤدونها، من قبيل «مول الزبل» أو «الزبايلي»، وهي مصطلحات ظلت لصيقة بهؤلاء العمال.
تتابع هذه العاملة حديثها وهي تنتشل القمامات من إحدى الشوارع، قائلة: «أنا لا أعتبر عمل المرأة في جمع الأزبال إهانة، بل مفخرة، لأن الإهانة الكبرى هي عندما تبيع المرأة شرفها». غير أن حسناء لم تنف أن طبيعة هذا العمل بالنسبة إلى المرأة لا تخلو من الصعاب، خاصة جر الحاويات الثقيلة وتفريغها في الأماكن المخصصة لها، ورغم ذلك فهي تحس بنوع من الارتياح، لأنها على الأقل تضمن لقمة عيش أبنائها.
على عكس حسناء، التقت «المساء» بلمياء، (إسم مستعار)، كشفت عن اسمها الحقيقي، في البداية، إلا أنها التمست عدم ذكره تفاديا للمشاكل، فلمياء خجولة بطبيعتها ولسانها عجز عن وصف كل معاناتها، وهي تقول بكلام يكاد لا يُسمع: «أنا مكنقدرش نواجه شي حد أُنعاود ليه المشاكل ديال الخدمة»، في إشارة واضحة إلى أن القطاع يتخبط في عدد من المشاكل، لكن العمال مغلوبون على أمرهم ومهددون بالطرد في أي لحظة.
تحكي لمياء بإيجاز عن تجربتها الفتية في مجال النظافة، دون أن تدخل في التفاصيل وهي تقول بكلمات متقطعة بدا من خلالها ارتباكها: «إن عمل المرأة في هذا المجال أمر صعب، ويحتاج إلى بذل الكثير من الجهد والصبر، خاصة أن النظافة تتطلب منا حمل وجر الحاويات المثقلة بالنفايات والأجر زهيد».
علاوة على ذلك، فإن المرأة لا يليق بها أن تشتغل في جمع الأزبال، لكن قلة فرص الشغل وقلة ذات اليد هي من دفعت بالكثير من النساء إلى هذا العمل، الذي قالت عنه لمياء: «لا أظن أنه اختيار عن قناعة بالنسبة إلى الرجل، فبالأحرى المرأة».
لم تكن لمياء تتحدث بالطريقة التي تحدثت بها حسناء، بل كانت جد مختصرة في كلامها، تنظر حولها وتقول بصوت خافت: «خفت إيجي المراقب ويلقاني واقفة مخدماش»، علامات الخوف بادية في محياها، وعيناها تحملقان في جميع الاتجاهات، وكأنها على موعد مع شخص ما، إلا أن الأمر اتضح فيما بعد، واكتفت بالقول: «إذا شئتم نأخذ موعدا آخر خارج أوقات العمل»، لكنها انسحبت دون توديع أو تحديد موعد اللقاء، ونبست بهمس وهي تجر إحدى الحاويات المنتفخة بالنفايات «حنا خدامين حتى يجيب الله ما حسن».
«ذئاب في زي الخرفان»
بهذه العبارة التشبيهية، استهل عبد الرحيم كلامه تعبيرا عن الوضع الاستفزازي، الذي يعيشه عامل النظافة، والمعاملة الاحتقارية، التي يتلقاها من المسؤولين، والتي تصل في بعض الأحيان إلى السب والشتم والكلام الساقط، غير أنه سرعان ما تتحول هذه «الذئاب»، كما وصفها، إلى «خرفان» عندما يتعلق الأمر باجتماع مهم بين المسؤولين والعمال ورب الشركة.
كثيرا ما تحدث عبد الرحيم بعبارات تشبيهية ومجازية يسعى من خلالها إلى نقل الصورة الحقيقية لأسلوب المعاملة، التي يقابَل بها عامل النظافة، وهي عبارات فيها إشارة واضحة إلى الأدوار التمثيلية التي يتقمصها المسؤولون المغاربة أمام الأجانب المسيرين للقطاع. وحاول عبد الرحيم، الذي بدا من خلال كلامه أنه كره طريقة العمل، في ظل ما أسماه سياسة «النفاق» وسوء معاملة المدراء لهم، أن يوضح الصورة قائلا: «إن المسؤولين المغاربة يغيرون جلدهم كالأفاعي البرية عند حضور الأجانب إلى اللقاءات والاجتماعات التي تعقد مع العمال»، مضيفا أنهم يصبحون كـ«الخرفان» ويلبسون أقنعة تخفي وراءها المكر والحقد لعامل النظافة، فتراهم يتصرفون بلطف ويبدون اهتماما بالغا بعامل النظافة، الذي ينعت بـ«الزبال»، ولا يتحدثون عن الحقوق التي يجب على العامل أن يتمتع بها إلا بحضور الأجانب.
بحسرة شديدة، واصل عبد الرحيم كلامه قائلا: «مانسمحوش للبلدية، باعتنا سلعة للشمايت». لم ينس هذا العامل آماله وطموحاته عندما كان يشتغل بعقد محدد مع البلدية المكلفة بقطاع النظافة، في الوقت الذي كان ينتظر سماع خبر ترسيم العمال بناء على قرارات المجلس البلدي، وكذا استفادتهم من السكن الاجتماعي، إلا أن الأمر «مجرد كلام فارغ» سرعان ما تبخر، بعدما قضى أزيد من 10 سنوات قبل أن يلتحق بالشركة، وكأنه لم يقض كل هذه السنوات في العمل.
«مول الزبل»، بهذه العبارة تتم مخاطبة عامل النظافة في الشارع، يقول عبد الرحيم وتقاسيم وجهه تحمل الكثير من المعاناة، التي توحي بيأسه من الوضع الذي يعيشه «مول الزبل» في المغرب والنظرة الاحتقارية للمجتمع من جهة، وتعنت وتهميش المسؤولين لوضعيتهم من جهة أخرى، مضيفا أن «الزبال في المغرب ماشي إنسان، هو غير زبال».
كان عبد الرحيم، في السابق، يخشى الفصح عن المعاناة التي يعيشها عامل النظافة، لكنه أصر على عدم التكتم مرة أخرى، على اعتبار أن المسؤولين والموظفين الأشباح في شركة النظافة، التي قضى بها ثلاث سنوات، يمتصون دماء الفقراء ويربحون أموالا طائلة على حساب كرامتهم وصحتهم.
الأزبال فوق رؤوسنا
استنكر عبد الحق، عامل نظافة بتمارة، التصرفات المشينة لبعض المواطنين في عدد من الأحياء، خاصة قاطني العمارات، حيث قال: «إن الإهانة الكبيرة عندما تسقط الأزبال والنفايات على رؤوسنا، ولا تعرف أحيانا مصدرها، وهو تصرف تكرر لعدد من المرات، والمواطنون يحتقرون بطرق أو بأخرى مول الزبل، ويهينون كرامته»، واصفا هذا الوضع قائلا: «أصبحنا كالكلاب الضالة التي لم يعد يفرق بيننا وبينها سوى النباح، كما أن هناك أشخاصا يرمون الأكياس البلاستيكية في الأماكن التي تم كنسها، وكأن العامل لم يقم بواجبه المهني، وهذا السلوك اللاواعي للساكنة يسبب للعامل الكثير من المشاكل مع الإدارة، ويتلقى توبيخا من المراقب قبل الإدارة، وفي بعض الأحيان قد يتعرض للطرد».
علاوة على ذلك، فإن المشاكل التي يتخبط فيها عامل النظافة لا تعد ولا تحصى، لكن الذي يحز في نفوس هؤلاء المستضعفين هو سوء معاملة الناس لهم، والذي يخلف لديهم إحساسا بـ«الحكرة»، رغم أنهم يشكلون «وجه» المدينة والأحياء، التي بدونهم ستكون حالتها كارثية.
كثير منهم يصابون بحساسية الجلد والربو في غياب تغطية صحية شاملة
حساسية وربو وأعطاب
«حرام عليهم خرجوا لينا على صحتنا»، خرجت هذه العبارة قوية من أعماق عبد الحق، عامل نظافة، التقت به «المساء»، وحكى لها المعاناة التي يعيش فيها هؤلاء، فقال إنه منذ اشتغاله في «كنس الأزبال ومخلفاتها»، وهو يعاني من عدة أمراض، وقد أجرى عملية جراحية لاستئصال ورم في رجله، تسبب له فيه الأعمال الشاقة التي يقوم بها، إلى أن أضحى غير قادر على الحركة، الشيء الذي أجبره على التوقف عن العمل لمدة شهرين دون أي تعويض عن المرض.
لم يكتف عبد الحق بسرد مشكلته مع العمل في جمع النفايات فقط، بل أكد على أن الكثير من العمال مصابون بعدد من الأمراض، كحساسية الجلد والربو وأمراض الحنجرة، بل هناك حالات أخرى أصيبت بتمزقات عضلية. كل هذا بسبب غياب الأدوات السليمة، التي يتطلبها هذا النوع من العمل الشاق، وثقل الحاويات المهترئة، التي لم تعد تقوى على تحمل الكم الهائل من النفايات، الشيء الذي يضطر معه عامل النظافة إلى اللجوء أحيانا إلى جمع الأزبال بيديه، علاوة على تآكل المكانس والنقص الحاد في الآليات.
وأضاف العامل نفسه، مبتسما، أنه رغم كون الإصابات التي يتعرض لها «مهندسو الصحة» تدخل في خانة حوادث الشغل، إلا أن الشركة لا تعوضهم عن ذلك، بل أكثر من ذلك «أن أي غياب، ولو كان مبررا، لا تعترف به الشركة، هذا طبعا دون الحديث عن غياب تغطية صحية شاملة».
قاطع عبد الرحيم كلام زميله في العمل، وشرع في الكشف عن مختلف مناطق جسده المكسوة بالبثور، نتيجة غياب الوقاية وانعدام جودة الألبسة والأدوات الواقية، ويداه تظهر عليهما بقع بيضاء من جراء ارتداء القفازات البلاستيكية غير الصحية، مؤكدا أن الشركة لا تمنحهم إلا قفازا واحدا خلال كل شهر، قبل أن يستطرد قائلا: «للأسف القفازات تتمزق قبل انتهاء الأسبوع الأول من استعمالها، وهو ما يؤكد رداءة جودتها، التي تفتقد إلى أبسط الشروط التي تضمن السلامة الصحية».
وأشار عبد الرحيم إلى قصة أحدهم عندما سقطت عليه آلة لرفع الحاويات نتج عنها إصابته بعدة كسور في رجله ورأسه، مبرزا خطورة الأضرار التي نجمت عنها، والتي حولت زميله إلى عامل بعطاءات أقل، نتيجة مخلفات الإصابة.
عداؤون من نوع خاص
شبه أحد العاملين طول المسافة التي يقطعونها في جمع الأزبال والنفايات بمدار السباق، قائلا: «حنا ولينا كثر من هشام الكروج»، حيث إنهم يقطعون مسافة تزيد عن خمسة كيلومترات يوميا، يطوفون الأحياء «زقاقا زقاقا..شارعا شارعا»، ولا يتقاضون إلا 2300 درهم في الشهر، وتبقى الفئات الأكثر تضررا، تلك التي تشتغل بالليل ابتداء من الساعة التاسعة ليلا إلى حدود السادسة صباحا، وقد تطول هذه المدة، بدون تعويض، إذا لم يتمكن العامل من تنظيف الحي بأكمله، لأن العمل في نهاية المطاف لا يُقاس بالساعات وإنما بالانتهاء من العمل ووزن النفايات، إذ يجب على كل عامل جمع ما يقارب 17 طنا من النفايات كدليل على المجهود الذي يقوم به.
وأكد العمال، الذين التقت بهم «المساء»، في تصريحات متفرقة، أنهم يشتغلون تحت الضغط، نظرا إلى قلة اليد العاملة وقلة عدد الشاحنات، التي لا يتجاوز عددها في إحدى البلديات التابعة لجهة سلا زمور زعير سبع شاحنات، علما أن الشركة المسيرة لهذا القطاع بهذه البلدية التزمت، قبل الشروع في التدبير المفوض، بتوفير ما لا يقل عن 21 شاحنة، وهو الأمر الذي فسره العمال بكون الشركة لا تسعى إلى جودة الخدمات بقدر ما تسعى إلى تحقيق الربح السريع «على حساب العمال».
ولم يغفل العمال، الذين يشتغلون بالليل، إثارة ما يتعرضون له من سرقة واعتداء أثناء مزاولتهم مهامهم، خاصة أنهم يشتغلون فرادى من خلال انتشارهم وسط الأحياء والأزقة، كل واحد منهم يتكلف بنظافة حي بأكمله.
«نهار عيدكم.. نهار زبلكم»
العمل في مجال النظافة لا يراعي لا الأعياد ولا المناسبات، ما على العامل سوى الاستعداد للأسوأ.. يقول عبد المجيد عامل نظافة إن أسوأ يوم هو يوم عيد الأضحى، حيث تنطبق عليهم مقولة «نهار عيدكم.. نهار زبلكم»، لكن العراقيل الكبيرة التي تصادف العامل تتجلى في قلة اليد العاملة وحجم الحاويات «المهترئة» وثقلها، حيث لا تسع لتفريغ كميات النفايات التي تتعدى مئات الأطنان.
وينضاف إلى هذه المشاكل مشكل آخر يتجلى في كون المواطن المغربي لا يراعي المجهود الذي يقوم به عامل النظافة، ولا يحترم الخدمة الشريفة التي يؤديها، إذ قبل أن تنتهي من جمع النفايات تتراكم أخرى، وهذا راجع إلى كون أن ثقافة تفريغ الأزبال في أوقات محددة لتسهيل الأمر على العامل، تغيب في أوساطنا.
ربورتاج